خبر ورؤية | رفـح .. ومحطة الأمّة الأخيرة
بقلم : جهاد بشير
ربما يكون ذلك الرجل الذي يتجول في شوارع رفح جنوبي قطاع غزة وهو يبث الطمأنينة بين الناس بإعلاء القرآن الكريم عبر مكبر الصوت؛ هو الأنموذج الأكثر تعبيرًا عن حال أهل غزة الصامدين الصابرين المحتسبين، رغم ما ألمَّ بهم من لأواء منذ مائة وثلاثين يومًا، طُوّقوا فيها بالبأساء والضراء، وزلزلوا زلزالاً شديدًا، ما كان لهم تجاهه إلا أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
تقف رفح اليوم على جرف هارٍ، لا يحول بينها وبين الهاوية إلا بقية حبل لا يمكنه الصمود أمام مد الكراهية الذي يسوقه الاحتلال، وليس ذلك لضعف في أهل رفح ومن لجأ إليهم من أرجاء القطاع الأخرى، ولا لنصب أو تعب، ولا لاستسلام أو خضوع؛ بل لأن خذلانًا عظيمًا يستقوي به عدوان الاحتلال منتهزًا عجز الأمة المحكومة والمقيدة من أنظمتها المستخذية للغرب، جعل من آخر مأوى لأهل غزة على أعتاب كارثة لم يسبق لها مثيل.
وليس في هذا القول من دوافع تثبيط أو تخذيل، بل هو مجرد وصف عابر لواقع مرير بات ما يربو على المليون ونصف المليون إنسان يعيشونه دون مقدرة على لملمة جراحهم أو تسكين آلامهم، فالثواني المعدودات تمر على أحدهم وكأنها دهر من الزمن، فهم في حالة شتات دون مأوى، وفي مشهد من الضياع بلا طعام أو دواء، ورغم ذلك تلاحقهم آلة العدوان الآثمة بعدما أرغمتهم على النزوح إلى حيث هم، وجلّهم فقد الآباء والأبناء والأقرباء، علاوة على فقدان ما يمكن أن يُتملك من متاع الدنيا.
ومن بدهيات الصراع أن مشاهد الحرب -ولا سيّما العدوان القائم على الظلم العدوان- تتمادى في ضراوتها كلّما وجد العدو صلابة في المقاومة، وثباتًا في التصدي، وألفى رأسه منكسًا تحت أقدام المجاهدين، لكن البشاعة في هذا المشهد تفرض نفسها حينما يتّجه هذا العدو هربًا نحو الانتقام من المستضعفين محاولاً إزالة مرارة انكساره بدماء الأطفال وأشلائهم، وإخفاء ضجيج سقوطه بصرخات الثكالى ونحيب المكلومين، ويسارع في ارتكاب جرائم الإبادة والتدمير الذي يجعل من العمران أثرًا بعد عين، لصرف الأنظار عن هزيمته وخسائره التي امتدت إلى مفاصل كيانه العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، حتى ضاق الأمر بحلفائه الذين يمدونه ماليًا وتعبويًا ولوجستيًا، فقط لأنهم جميعًا كانوا يظنون أن إعادة احتلال غزة والإطاحة بالمقاومة فيها لن تأخذ منهم سوى أيام معدودات، فإذا بهم كالذي خرّ من السماء فاختطفته الطير أو هوت به الريح في مكان سحيق.
وإذا كان قطار النصرة قد مرّ في محطات الأمّة المتعددة منذ زمن ولم يتخذ الكثير من الناس من هذا المرور فرصة لاستقلاله، فإن محطة رفح ما تزال مؤهلة لتكون منطلقًا لتدارك ما فات وإصلاح ما فسد، وفيها ما يُمكّن من كتابة صفحات جديدة تنسخ سجل الخذلان الذي تكدست صفحاته السوداء وتراكمت فصوله المعتمة.
إن أمام العلماء والنخب وقادة الجماهير والمؤسسات غير المرتبطة بالأنظمة في تخصصاتها كافة؛ مسؤوليات ثقيلة لا مناص لهم من تحمّلها أو النوء بتبعاتها، وإذا كانت الشعوب قادرة – بما تتميز به من كتل بشرية ضخمة، وعاطفة فيّاضة جامحة، ويد معطاءة عابرة للحدود – على الشروع بالفعل الذي يمُدُّ غزة بسبل البقاء على الحياة والصمود انطلاقًا من حماية رفح ومد المقاومة بالقواعد الصلبة والجدران الرصينة التي تسندها؛ فإن الحراك العاجل في المشروع الجمعي العملي الذي يؤول إلى ذلك؛ فريضة شرعية وضرورة إنسانية، والله غالب على أمره.